الميزانيات الضخمة التي خصصتها الدولة للتعليم العام والعالي، من تطوير المناهج … وعصرنتها … وإدخال التقنيات الحديثة فيها … وبناء المدارس… وافتتاح الكليات… بما يسمح بدخول معظم الطلاب المتخرجين في الثانويات العامة إلى الجامعات خطوة مشكورة ومحسوبة للدولة، على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها. ولئن كان البعض يرى أن انخراط الشباب في مسار التعليم يحفظهم من أسباب الانحراف والتطرف والغلو، فإننا نرى الأمور من زاوية مختلفة تماما- مع تقديرنا- للرؤية السالفة ووجاهتها. ذلك أن الفكرة السائدة عند الناس عن التعليم أنه جسر، وجواز مرور للرسو عند شاطئ الوظيفة، فالعلم والتعليم ليسا قيمة عليا عند الطلاب وأهاليهم بقدر ما هما وسيلة لشيء آخر مختلف تماما. ولسنا نغالي إذا ما قلنا إن كثيرا من الطلاب وأولياء الأمور يعضّون أصابع الندم على سنوات الدراسة والتعليم التي أضاعوا فيها العمر - إذا - ما أخفقوا في الحصول على مقعد دراسي في الجامعة، أو الحصول على وظيفة مناسبة!.
معظم تصريحات الطلاب المتفوقين وأولياء أمورهم للصحف المحلية، نتيجة اختبارات قياس القدرات، والذين لم يحالفهم الحظ في دخول الجامعات، تقول حقيقة واحدة، إنهم يتمنون لو عاد بهم الزمن ليختاروا طريقا آخر. لأن التعليم (ما يوكل عيش).
إذن العلم والتعليم عند شريحة كبيرة من مجتمعنا لا يشكّلان أيّة أهمية، وهما قضية خالية من المعنى، إذا لم يقترنا بالوظيفة ، ومن ثم العملية التعليمية برمتها، وما تستنزفه من ميزانيات ضخمة، وجهود كبيرة، وافتتاح منشآت ومرافق باهظة التكلفة، ليس لها قيمة تذكر عند شرائح كثيرة من المجتمع .
ومن هنا التعليم كعملية بناء للوعي، وغذاء للعقل ،وتشكيل للوجدان بعيد كل البعد عن المنظومة المفاهيمية عند الناس، وعلى هذا استغربت كثيرا، من تصريح معالي وزير التعليم العالي المنشور في الصحف المحلية عن عزم الوزارة على حجز مقعد دراسي لكل طالب يتخّرج في الثانوية، مهما كانت معدلاتهم، وبغض النظر عن مستوياتهم، وإن يكن البعض هلل وفرح وأثنى على هذا التصريح، فإننا نحسب أن إشكالية بطالة الشباب المتخرج في الثانوية تحتاج رؤية مساوقة للتعليم الجامعي ومتجاوزة له.
فما الحال بعد عشر سنوات أو عشرين سنة من قبول الطلاب في الكليات والجامعات؟ ستتخرج هذه الأفواج في الجامعات تريد العمل في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص.
وإذا ما تجاوزنا الإجابات الجاهزة التي نسمعها من بعض المسؤولين عن التناسب بين مخرجات التعليم المستقبلية وحاجات سوق العمل، فإننا سنقف أمام حقيقة مزعجة لدى البعض ،أن القطاع الحكومي لم يعد لديه قدرة على استيعاب الأجيال القادمة من خريجي الجامعات والكليات. والقطاع الخاص لا يحبذ العنصر الوطني، ويفضّل الأجنبي لأسباب كثيرة، ليس هذا مجال لذكرها. وسيجد ألف حيلة وحيلة للتملّص من استحقاقات المرحلة القادمة من توظيف الشباب السعودي.
نعود إذن إلى المربع الأول، كيف نتعامل مع مشكلة الشباب العاطل عن العمل حاليا ومستقبلا؟
لست بائعا للحلول والأحلام، ولكنني أستحضر تجربة رائعة قامت بها شركة أرامكو السعودية في العقدين الأخيرين - أفادت - كثيرا أبناء المنطقة الشرقية، وربما لو أجرينا إحصائية على نسبة الطلاب الذين يدرسون في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران، وجامعة الملك فيصل بالأحساء/ الدمام، وفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالأحساء، لوجدنا - نسبة الطلاب من خارج المنطقة هي الأعلى، ذلك أن شركة أرامكو السعودية في المنطقة الشرقية - نظمت برنامجا تدريبيا لأبناء المنطقة لمدة سنتين، يتخرج من خلاله الطالب إلى وظيفته فورا أكانت في حقول الشركة أم معاملها أم مكاتبها، ومن ثم أبناء المنطقة - اختصروا - الطريق إلى الوظيفة، دون المرور بترانزيت التعليم الجامعي .
ما أود أن أقوله على نحو دقيق، طالما أن العلم والتعليم ليس لهما حضور عند شرائح كبيرة من مجتمعنا السعودي بقدر ما يوصلان إلى محطة الوظيفة، فلماذا لا يوضع الحصان أمام العربة؟، ويتجه جزء من الميزانيات والإمكانيات المخصصة لفتح الجامعات والكليات لكل هذه الأفواج من الشباب إلى فتح مشروعات حكومية ريعية مساهمة مع القطاع الخاص كمصانع وشركات ومنشآت، تحفل بإمكانيات لتدريب الشباب وتوظيفهم. بمعنى آخر، مشروعات ريعية: تجمع بين التدريب والتوظيف لتأمين مستقبل الأجيال الجديدة. وإذا ما علمنا أن توفير الفرص الوظيفية للشباب لا الفرص التعليمية هي المطالب الملحة في المرحلة الراهنة ،ومن ثم يمكن أن تتوفر على الدولة هذه الميزانيات الضخمة التي يستنزفها التعليم العالي دونما طائل على المدى البعيد، بل ربما تكّرس البطالة البكالوريسية. فلنا أن نتصور بعد عدد من السنوات - أن يستحيل الجيل الجديد برمته إلى جامعيين، وحملة شهادات عليا، فماذا عسى أن يكون عليه الحال؟ ستستمر قاطرة البطالة في المسير، وتوازيها قاطرة استيراد العمالة المهنية من الخارج، وأحسب أن هذا يناقض منطق الأمور ، والتصور الهرمي للحياة . وأيّا كان الأمر، فالوظيفة أهم من التعليم عند الشباب في المرحلة الراهنة ، هذا ما ينطق به لسانهم وحالهم.
غازي المغلوث كاتب وأكاديمي سعودي