مقاله نشرت في جريدة الوطن (21-10-2003) للكاتب جعفر عباس
وقد عجبني موضوعها و لذا فقد طرحته هنا
وهو الحلقة الأولى
عن… سامحوني، نسيت (1)
جعفر عباس
منذ سنوات وأنا أعاني من مشكلة الذاكرة قصيرة الأمد (شورت تيرم ميموري)، أي إنني أجد صعوبة في تذكر أشياء بعد حدوثها أو سماعها بفترة قصيرة، وقد أدخل غرفة لتناول شيء ما ولكنني أنسى ما هو ذلك الشيء بعد دخولي الغرفة، بل وقد أتناول شيئا مختلفا عن الشيء الذي كنت أنشده، وبداهة فإن زوجتي كثيرا ما “هزأتني” لأنها طلبت مني إحضار كريم نيفيا فأحضرت لها كيس عدس، وكثيرا ما تزودني بقائمة مشتريات وكثيرا ما نسيت القائمة، ونسيت أمر الشراء برمته أو أحضرت جانبا مما طلبته، أو أشياء لم تكن قد طلبتها أصلا، ولكن لو قمت بتشغيل ذاكرتي الذكية، ولكل إنسان ذاكرة ذكية “إنتليجنت ميموري”، لتفاديت تأنيبها وتقريعها: هي طلبت الأشياء تلك لأننا دعونا ضيوفا للعشاء،… والعشاء يتطلب شراء السمك واللحم والدجاج… ولطبخ هذه الأشياء لا بد من زيت وصلصة وبصل… ولكنني اشتريت كيسا كبيرا من البصل قبل يومين، إذن لا داعي لشراء البصل… لا بد من لوازم السلطة… ولا بأس بالحمص فربما تريد إعداد الطعمية، وحسب علمي فالبقدونس ضروري لخلطة الطعمية… وهكذا وبإيجاد صلات وروابط بين الأشياء المخزونة في الذاكرة أستطيع تفادي التأنيب والاتهام بالسبهللية! وهناك مفتاح السيارة الذي لا يمر يوم دون أن أضيع بضع دقائق في البحث عنه، ولو استخدمت الذاكرة الذكية لقلت للمفتاح: داهية تاخدك فعندي مفتاح احتياطي تحت قمصاني، وآخر في درج خزانة المطبخ!!
ما حملني على التطرق إلى موضوع الذاكرة هو قراءة عرض شيق لكتاب من تأليف البريطاني باري غوردون وهو يحمل درجة بروفيسور في علم المخ والأعصاب، يعلمك كيف تنشط ذاكرتك وتستخدمها لحل المشكلات وتذكر الوقائع والمواقع والتواريخ وما إلى ذلك،… وكان أول استنتاج خرجت به من قراءة العرض المطول هو أنني وكثيرين غيري لا نبذل جهدا يذكر لحل أبسط المسائل!! هل تحسب نفسك أذكى من أبو الجعافر؟ أتحداك أن تجيب على السؤال التالي بلا أو نعم فور الفراغ من قراءته: هل يجوز لمسيحي كاثوليكي أن يتزوج شقيقة أرملته؟ طبعا - يا ذكي- شغلت مخك بسلندراته الثمانية والجير الأوتوماتيك للتنقيب عن المعلومات المتعلقة بزواج المسيحيين الكاثوليك!! طيب بلاش الكاثوليكي ذاك: هل يجوز للمسلم الزواج بشقيقة أرملته؟ ستقول نعم بدون تردد وتحسب أنك أذكي من أبو الجعافر “اللي قرأ مقال عن تنشيط الذاكرة ويحسب حاله معلم في هذا المجال”!! إجابتك خاطئة لأنك لم تشغل ذاكرتك الذكية واكتفيت بالاطلاع على قشرة السؤال دون لُبّه!! المرأة تصير أرملة فقط عندما يموت زوجها ولا يستطيع الرجل أن يتزوج وهو ميت بشقيقة أرملته أو ليلى علوي… ثم اقرأ ما يلي بشرط أن يكون مكتوبا على سطرين (هذا الكلام موجه لفنيي الصف الإلكتروني والإخراج في الجريدة):
لا إله إلا
إلا الله محمد رسول الله
أنا متأكد أن 90% منكم سيقرؤون العبارة أعلاه دون اكتشاف أن كلمة (إلا) مكررة، ذلك أنها “الشهادتان”، ولن يتوقف الكثيرون للتدقيق في كيفية كتابتها لأنهم يقرؤونها من المخزون وبلا تدقيق أو تمحيص،… وغدا نواصل بمشيئة الله
اشكرك ياغزل القصيد وبما انك الحلقةالاولى اسمح لي بعرض الحلقة الثانية وهي بتاريخ 23/10/2003
====
عن… نسيت سامحوني (2)
جعفر عباس
كنت أتحدث عن كتاب البرفسور البريطاني باري غوردون أستاذ علم المخ والأعصاب عن الذاكرة الذكية، وكيف أن معظمنا لا يحسن استخدامها مما يوقعنا في مواقف حرجة بل ويقعدنا عن حل أبسط المسائل، هو يقول إن الذاكرة الذكية تعمل عن طريق استعادة الخبرات والتجارب الماضية وإيجاد صلات بين الأشياء، فمثلا عادت سيدة من حفل ووضعت القلادة الذهبية التي استعارتها من زينب في مكان ما، وفي الصباح لم تعثر عليها في الأماكن “المعتادة”!! ما العمل وزينب لسانها طويل، وستتهمها بأنها أخفت القلادة أملا في أن تكف عن المطالبة بها (وهذا كحلم إبليس في الجنة، لأن زينب ليست من النوع الذي يقول: يا بنت الناس العمر نفسه يضيع… فداك القلادة وكرسي جابر)!! ما يحصل عادة أن تلك السيدة تصاب بالهلع وتقلب البيت فوق تحت، بل وتبحث عن القلادة داخل الثلاجة! ولكن إذا تروّت وجلست بهدوء، واستعادت خطواتها منذ أن غادرت الحفل وكيف خلعت حذاءها أسفل السلم، كي لا توقظ أبو جلمبو الذي وعدته بالعودة قبل انتصاف الليل، ثم تفادت فتح الخزانة لأن أبوابها تصدر صريرا عاليا، وفوق ذلك تفادت إضاءة المصباح الكهربائي خوفا من أن يلقي أبو جلمبو نظرة إلى ساعة الحائط،… وتسللت إلى الحمام بهدوء وخلعت ملابسها هناك… أيوه… حطيت القلادة في الطاولة الصغيرة اللي في الحمام بين علب الشامبو والأدوية،… ويقترح البروفسور غوردون طرقا عديدة لتنشيط الذاكرة الذكية (الذاكرة العادية هي التي نُمشّي بها أمورنا الحياتية البسيطة)، ومنها خلق صلات بين الأشياء كما يفعل الطلاب عندما يضطرون لحفظ درس صعب غيبا، وكما فعل ابن مالك بقواعد اللغة العربية عندما صاغها شعرا وبات من السهل على طلاب اللغة حفظ معظم تلك القواعد، وهناك العمل على أخذ الأمر بالمقلوب، أي بدلا من التفكير في طريقة حل مسألة مستعصية، تفكر في كيفية منع حدوثها، فعند انتشار الجدري لم يحاول الطبيب الإنجليزي إدوارد جينر، فحص المصابين بالمرض بل درس حالات الذين لم يصابوا به، واكتشف أن الفتيات العاملات في حظائر الأبقار لديهن مناعة ضد الجدري، على الرغم من إصابتهن بالجدري البقري، وهكذا توصل إلى تركيب مصل الجدري… وهناك التصوير بعين الخيال أخذا في الاعتبار أن 40% من المخ مخصص للإبصار وهو ما لا تتمتع به أي وظيفة فسيولوجية أخرى، وبتركيب صور ذهنية للمواقع والأحداث وتوزيع الأدوار على بشر في داخل تلك الصور تستطيع أن تضمن انك لن تنسى ما يتعلق بالموضوع الذي صورته ذهنيا… ومن الأساليب الفعالة لتنشيط الذاكرة الهرب المؤقت من المشكلة التي فكرت فيها طويلا دون أن تجد لها حلا، وهذا أسلوب يعرفه الطلاب خلال الاستعداد للامتحانات… فبعد مراجعة مادة معينة ثلاث مرات يحس الطالب أنه لا يتذكر منها حرفا واحدا، فيخرج مبتئسا ويجلس أمام التلفزيون لنصف ساعة ليتابع برنامجا شيقا ثم يتذكر فجأة تلك المادة التي طارت من رأسه ويكتشف أنها عادت إلى قواعدها سالمة في دماغه… وتذكر أن هناك أكثر من حل للمسألة الواحدة،… اختبر نفسك: ما هي الكلمة الغريبة وسط هذه المجموعة من الكلمات: عمارة، مسجد، كنيسة، معبد، صلاة!! قد تقول إن “صلاة” هي الكلمة الغريبة لأن بقية الكلمات تشير إلى أبنية أو مبان وتكون إجابتك صحيحة، ولكن غيرك قد يقول إن “عمارة” هي الكلمة الغريبة لأن بقية الكلمات تتعلق بالتعبد!