مفاسد المنافسات الرياضية : أولاً: مقدمة البحث
أولا: مقدمة البحث:
1ـ تعريف السبْق والسبَق:
السبق لغة:
1ـ السبْق بسكون الموحَّدة مصدر سبَق يسبِق.
قال ابن فارس رحمه الله: “السين والباء والقاف يدل على أصل واحد صحيح، يدل على التقديم، يقال: سبَق يسبق سبقاً”([1]).
وقال ابن منظور رحمه الله: “السبق القدمة في الجري وفي كل شيء”([2]).
وقال الأزهري رحمه الله: “جاء الاستباق في كتاب الله في ثلاثة مواضع بمعان مختلفة: منها قوله عز وجل: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} يوسف:17]، قال المفسرون: معناه ننتضل في الرمي، وقال عز وجل: {وَٱسُتَبَقَا ٱلْبَابَ} يوسف:25]، معناه: ابتدرا إلى الباب، تبادر كل واحد منهما إلى الباب… والثالث في قوله: {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصّرٰطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ} يس:66]، معنى استباقهم مجاوزتهم إياه حتى يضلوا ولا يهتدوا، والاستباق في هذا الموضع من واحد، والوجهان الأولان من اثنين”([3]).
وقال رشيد رضا في قوله تعالى: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ}: “أي: ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى السباق يتكلف كل منا أن يسبق غيره… والاستباق تكلُّف السبق، وهو الغرض من المسابقة والتسابق، بصفة المشاركة التي يقصد بها الغلب، وقد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق، ومنه: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} المائدة:48]، فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب، وقوله الآتي في السورة: {وَٱسُتَبَقَا ٱلْبَابَ} كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هرباً… وصيغة المشاركة لا تؤدي هذا المعنى”([4]).
2 ـ وأما السبَق بفتح الموحَّدة فهو ما يبذل للسابق.
قال الخطابي: “هو ما يجعل للسابق من الجعل”([5]).
وقال ابن فارس: “هو الخطر الذي يأخذ السابق”([6]).
وقال البغوي: “هو المال المشروط للسابق على سبقه”([7]).
وقال ابن الأثير: “هو ما يجعل من المال رهناً على المسابقة”([8]).
وقال ابن حجر: “هو الرهن الذي يوضع للسبْق”([9]).
والسبْق شرعاً:
اختلفت عبارات الفقهاء في تعريفه على أقوال:
قال الكاساني: “هو أن يسابق الرجل صاحبه في الخيل أو الإبل ونحو ذلك، فيقول: إن سبقتك فكذا، وإن سبقتني فكذا”([10]).
وقال ابن قدامة: “السبق: المسابقة”([11]).
وقيل: هو المجاراة بين حيوان ونحوه([12]).
وقيل: هو عقد بين متعاقدين على عمل يعملونه لمعرفة الأحذق منهم فيه([13]).
2ـ مشروعية السبْق:
دل على مشروعية السبق الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} الأنفال:60].
قال الجصاص رحمه الله: “وهذا يدل على أن جميع ما يقوي على العدو فهو مأمور بإعداده”([14]).
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} التوبة:46]، فذمهم على ترك الاستعداد قبل لقاء العدو، والخروج إلى قتالهم، ومن الاستعداد له السباق([15]).
وقوله تعالى: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَـٰعِنَا} يوسف:17].
قال ابن سعدي: “نستبق إما على الأقدام أو الرمي والنضال”([16]).
وأما السنة: فقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة، منها:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها([17]).
قال ابن حجر: “وفي الحديث مشروعية المسابقة، وأنه ليس من العبث، بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة”([18]).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمَّى العضباء لا تُسبق, فجاء أعرابي على قعود فسبقها, فشقَّ على المسلمين حتى عرفه، فقال: ((حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه))([19]).
قال ابن حجر: “في الحديث اتخاذ الإبل للركوب والمسابقة عليها”([20]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فسابقته فسبته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال: ((هذه بتلك))([21]).
وأما الإجماع: فقد حكاه جمع من أهل العلم رحمهم الله، منهم: ابن عبد البر([22]) وابن حزم([23]) وابن هبيرة([24]) وابن قدامة([25]) والعراقي([26]) وغيرهم.
3ـ حكم بذل العِوَض في عقد السباق:
لا يخلو ذلك من حالات:
الحالة الأولى: أن يكون بذل العوض من الإمام، وهو أن يخرج الوالي جعلاً يجعله للفائز من المتسابقين([27]). ويصح هذا الإعطاء لما فيه من التحريض على تعلم الفروسية والرياضة، والاستعداد على الجهاد في سبيل الله، يدل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل وأعطى السابق([28]).
قال ابن تيمية رحمه الله: “فإذا أخرج ولي الأمر مالاً من بيت المال للمسابقين بالنشاب والخيل والإبل كان ذلك جائزاً باتفاق الأئمة”([29]).
الحالة الثانية: أن يكون بذل العوض من أجنبيٍّ وهو الخارج عن السباق، فهو ليس أحد المتسابقين، وصورة ذلك أن يقول ذلك الأجنبي: من سبق منكما فله من المال كذا. وهذا جائز باتفاق الأئمة أيضا([30]) لما فيه من الأسباب المساعدة على القوة في الجهاد، فصح بذل العوض منه، كما لو اشترى به سلاحاً أو خيلاً للجهاد في سبيل الله.
الحالة الثالثة: أن يكون بذل العوض من أحد المتسابقين، وصورة ذلك: أن يقول أحد المتسابقين للآخر: سابِقني، فإن سبقتني فلك مني كذا من المال مثلاً. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك على قولين:
القول الأول: أن ذلك جائز، وهو مذهب الحنفية([31])، والشافعية([32])، والحنابلة([33])، ووجه عند المالكية([34]).
واستدلوا بما يلي: أنه إذا جاز بذله من غير المتسابقين، فأولى أن يجوز من بعضهم. ولأنه تحريض على الاستعداد لأسباب الجهاد بمال نفسه، وهذا جائز قياساً على التنفيل من الإمام بل أولى؛ لأن هذا يتصرف في مال نفسه، والإمام يتصرف في مال العامة. ولانتفاء شبهة القمار هنا.
القول الثاني: أنه لا يجوز، وهو رواية عن مالك([35])، واختارها البعلي من الحنابلة([36]).
قالوا: لأن ذلك من صور القمار المنهي عنه، فلا يجوز فعله.
الحالة الرابعة: بذل العوض من المتسابقين جميعاً. واختلف العلماء رحمهم الله في ذلك على أقوال:
القول الأول: ذهبت الحنفية([37]) وبعض المالكية([38]) والشافعية([39]) وأكثر الحنابلة([40]) إلى أن ذلك لا يجوز إلا أن يدخل في السباق محلِّل، فمن سبق فله الجعل، سواء كان المحلِّل أو غيره.
ومن أبرز أدلتهم ما يلي:
1ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس، ومن أدخل فرساً بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار))([41]).
2ـ وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل، وجعل بينهما سبقاً، وجعل بينهما محللاً، وقال: ((لا سبَق إلا في حافر أو نصل))([42]).
3ـ وقالوا: إنه بدون محلل يكون قمارا، وبالمحلل ينتفي القمار؛ لأن الثالث (المحلل) لا يغرم قطعاً ويقيناً، وإنما يحتمل أن يأخذ أو لا يأخذ، فخرج بذلك عن صورة القمار، فصار كما إذا شُرط من جانب واحد([43]).
القول الثاني: يجوز بذل العوض من المتسابقين بدون محلِّل. وهو اختيار ابن تيمية([44])، ونصره ابن القيم([45])، وهو قول كثير من متأخري الحنابلة([46]).
ومن أبرز أدلتهم ما يلي:
1ـ قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ} المائدة:1].
قال ابن القيم رحمه الله: “وهذا يقتضي الأمر بالوفاء لكل عقد إلا عقداً حرمه الله ورسوله أو أجمعت الأمة على تحريمه، وعقد الرهان من الجانبين ليس فيه شيء من ذلك، فالمتعاقدان مأموران بالوفاء به”([47]).
2ـ وعن ابن عباس قال: قالت قريش لأبي بكر: زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارسا في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟! قال:بلى، فارتهن أبوبكر والمشركون، وتواضعوا على الرهان([48]).
3ـ وقالوا: إن الرهان جائز، ويدل على ذلك حديث أنس رضي الله عنه: لقد راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس([49])، وحديث: ((لا جلب ولا جنب في الرهان))([50]). ففي الأول: مراهنة، وهو على وزن مفاعلة، والمفاعلة لا تكون إلا من طرفين، وفي الثاني: الرهان وهو على وزن الفعال، وهو يقتضي أن يكون من جانبين.
ووجه دلالة الأول هو عمل النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه دلالة الثاني هو إبطال الرسول الجلب والجنب في عقد الرهان، ولم يبطل اشتراكهما في بذل السبق مع أن حكمه أهم من بيان الجلب والجنب.
4 ـ وبما ذكره ابن تيمية رحمه الله حيث قال: “ما علمت بين الصحابة خلافاً في عدم اشتراط المحلل”([51]).
القول الثالث: أنه لا يجوز بذل العوض من المتسابقين ولو أدخلا بينهما محلِّلاً، وهو قول أكثر المالكية([52]).
قال ابن عبد البر رحمه الله: “أما الوجه الذي لا يجوز إلا بالمحلِّل على ما ذكره الشافعي… فإنه لا يجوز عند مالك، ولا يعرف مالك المحلل”([53]).
ومما استدلوا به ما يلي:
1ـ قوله تعالى: {إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأنصَابُ وَٱلأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} المائدة:90]، قالوا: والميسر هو القمار، وفي بذل السبق من المتسابقين قمار؛ لأن كل واحد من المتسابقين يجوز أن يذهب ماله إلى صاحبه، ويجوز أن يستفيد مالَ صاحبه.
2ـ ما حكاه ابن جرير رحمه الله من الإجماع حيث قال: “اجتمعت الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ فيما نقلته مجمعة عليه أن الميسر الذي حرمه الله هو القمار، وذلك ملاعبة الرجل صاحبه على أن من غلب منهما فللغالب أخذ من المغلوب قمرته التي جعلاها بينهما؛ كالمتصارعين يتصارعان، والراكبين يتراكبان، على أن من غلب منهما فللغالب على المغلوب كذا وكذا خطاراً وقماراً، فإن ذلك هو الميسر الذي حرمه الله تعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق))([54])”([55]).
3ـ وقالوا: إنه محرم أكل الجعل في صورة اشتراكهما في الإخراج، فدخول المحلل حيلة، فهو مثل المحلِّل في النكاح والعينة، وقد ثبت فيهما النهي، فكما أن المحلل في النكاح والعينة لا يبيحها فكذلك في السباق لا يبيحه.
القول الرابع: يجوز بذل العوض من المتسابقين بشرط وجود محلل، فإن سبق المحلل فالسبَق له، وإن سبق المخرجون للجعل فلا شيء لهم إلا ما أخرجوا، وبه قال بعض الشافعية([56]).
قالوا: إنه لا يجمع المتسابق بين دفعه للسبَق وبين ربحه مال صاحبه إذ هو قمار، ومن هنا فللمحلل أن يأخذ ما لهما إن سبق، وليس لأحدهما أن يأخذ مال صاحبه ولو سبق.