" أميل للتخصص س … لكن رغبة أهلي في التخصص ص، حيث أن له سمعة ومكانة في مجتمعي، وقريبي أيضًا تخصصَ وبرع فيه.
لكن لا علي! فيجب أن أختار ما أميل إليه.
لكن… ما أعرفه عن التخصص س أن فرصه في المستقبل أقل من ص، ربما يجب علي أتخصص في ص.
لكن بالنظر إلى ص ، هل سأستطيع الاستمرار فيه بناءً على ما أملكه من قدرات ؟!
ربما على إضافة خيار آخر … التخصص ع .
لكن …
ولكن …
ربما …"
وتستمر الدوامة:
الابتداء في نقطة، ظهور عقبة أو عارض، ثم البدء من جديد، وهكذا…
هذا ما يواجهه الكثير ممن هم على عتبة اتخاذ هذا القرار، سواءً في السنة التحضيرية، أو ربما قبلها، حيث يبدأ الهاجس في التفكير بالمستقبل، وتبدأ الأسئلة بالظهور.
هل دخولي في هذه الدوامة طبيعي؟
الجواب ببساطة، نعم … طالما أنها في حدود المعقول، فلا يجب أن تأخذ أكبر من حجمها لتصبح مصدرًا للقلق، ولا يجب أن يقلل من شأنها فتكون كأي قرار يتخذ في لحظتها.
تبرير ذلك بالأسباب التالية:
- اختيار التخصص الجامعي من أهم القرارات في الحياة المستقبلية، فعليه غالبًا يحدّد المستقبل على اختلاف المسارات : وظيفي، أكاديمي،الخ… لذلك، من الطبيعي جدًا أن تتأنى في اتخاذ هذا القرار الذي سيكون له تأثير على مستقبلك.
- طبيعة الإنسان أنه إنسان ، ليس روبوت! … بمعنى أنه تؤثر في اتخاذ قراراته عوامل كثيرة، منها ما يكون عقليًا ، ومنها ما يكون عاطفيًا. ولا يكاد يُتخذ قرار في الحياة إلا بناءً على مزيج من العقل والعاطفة، فهذا طبيعي، ولكن سر النجاح في أن تُحدد نسبة العقل والعاطفة بالشكل الصحيح بناءًعلى القرار الذي سيُتخذ.
إذًا … كيف أختار؟
من المؤكد أنك سمعت وقرأت عن كثير من الطرق لاختيار التخصص، أو استمعت لبعض الخبراء والأصدقاء، أو جربت بعض الاختبارات والمقاييس. جميل !
هذه الخبرات والمقاييس والاختبارات مفيدة في اتخاذ القرار، لكن من وجهة نظر شخصية ، ما تقدمه لك هو قطع نصف الطريق أو بعضه، حيث تقوم بحصر خياراتك فحسب.
( وربما قد تكون لاحظتَ ذلك، حيث أن بعض المقاييس تعطيك مخرجًا نهائيًا كالهندسة مثلًا أو عدة هندسات.
حسنًا ، أنا في جامعة البترول لدي عدة خيارات هندسية ، فماذا أختار ! )
الجزء المتبقي والأهم من الطريق يعتمد عليك أنت ، وما أحاول تقديمه في هذا الموضوع هو أداة من الأدوات تعينك بإذن الله على اختيار تخصصك الجامعي بالشكل الصحيح.
لأعطيك بعض المطمئنات:
محدثك مر بهذه الدوامة ، بل و مر بتجربة تغيير التخصص! ، لكنه بفضل الله تخرج بمرتبة الشرف، والآن موظف على رأس العمل
بناءً على تجربتي الشخصية المتواضعة ، ما أدّعيه أن هذه الأداة هي الأكثر توازنًا وواقعيةً في اتخاذ هذا القرار.
لنبدأ
هذه الأداة مكونة من ثلاث مدخلات ، تتفاوت في نسبتها وحجم تأثيرها. من المؤكد أنك سمعت بهذه المدخلات وتعي أهميتها في اتخاذ القرار، لكن ما دفعني لكتابة هذا الموضوع هو تصحيح لبعض وجهات النظر الخاطئة – من وجهة نظري- باعتبار مُدخل واحد فقط وإهمال البقية تمامًا! أو إعطاء نسب غير منطقية لها، مما يخلق شيئًا من عدم الواقعية ويؤثر على القرار بشكل سلبي.
المدخلات هي:
1- الميول والرغبة
وأعطيها كأهمية 50-60% .
نعم هي العامل الأهم والأقوى، والحاسم ربما. فهي العامل الأكبر للاستمرار والإبداع، وهي المحفز لتخطي الصعوبات والمتاعب، فمن يحب الشيء لا يكاد يوقفه أي شيء. ويجب أن لا يقتصر النظر على الرغبة أو الميول في الدراسة الجامعية فحسب، بل يجب توسيع النطاق ليشمل ما بعد ذلك، فقد تمضي أغلب مستقبلك الوظيفي أو الأكاديمي في ذات التخصص أو قريب منه.
وينبغى أن يتوازى مع الرغبة معرفة إجمالية بالتخصص وطبيعته، فالصورة الذهنية لبعض التخصصات قد تكون برّاقة، لكن عند التعرف عليها أكثر قد تبدأ الرغبة بها بالتلاشي. وسوف يأتي الحديث عن ذلك بتفصيل أكثر في في المدخل الثاني.
قد تكون سمعت ذلك عندما سألت أحدهم عن اختيار التخصص، فأجابك: “ادخل التخصص الذي ترغب به فحسب”.
فإن قال ذلك مجازًا وكان يقصد أن العامل الأهم والأول هو الرغبة، فهذا صحيح.
أما إن كان يقصد قصر النظر على الرغبة فحسب (بحيث تُعطى نسبة 100%)، وإغفال كل العوامل الأخرى، فهذا غير دقيق، وأعتبره مثالية وعدم واقعية!
وتبرير ذلك يأتي في سياق عرض العوامل الأخرى.
الآن، أتوقع منك أنك استحضرت في ذهنك بعض الخيارات، ربما خياران أو ثلاثة، أو أربعة. لنكمل
2- القدرة
وأعطيها كأهمية 20-30% .
إن كانت الرغبة هي المحرك المعنوي، فالقدرة هي المحرك المادي، والذي لا يستغنى عنه. فماذا أعني بالقدرة:
أعطى الله البشر قدرات ذهنية مختلفة، وهذا من حِكمه سبحانه ليستقيم عيش الناس، ويكمّل بعضهم بعضًا . فيتميز البعض مثلا بالقدرات الذهنية الرياضية، وبعضهم لا يُحسن ذلك كالأول، ولكنه يتميز بالقدرات الإدارية، والبعض الآخر أوتي مَلَكة الحفظ، والبعض بارع في التحليل ، وهكذا …
الآن ، لنتحدث عن القدرات على ضوء التخصصات الجامعية.
ابتداءً، هناك قدرٌ مشترك من القدرات الذهنية التي يجب أن يتمتع بها الكل، وكونك قُبلت في جامعة البترول واستمريت بها، فأنت تملكه. لكن في موضوع اختيار التخصص، الكلام عن قدر زائد عن هذا.
مثلا، في التخصصات الهندسية بشكل عام ، ستتعامل مع الرياضيات بشكل أكثر من زميلك في التسويق. فإن كنت تعاني منها أو تهابها لأي سبب، فتخصصك فيها قد يكون متعبًا.
بعد ذلك، في تخصص الهندسة الكيميائية على سبيل المثال، ستتعامل بديهيًا مع الكيمياء. والكيمياء لها أساسيات وتحتاج لبعض القدرات، فإن كنت لا تحب الكيمياء منذ الثانوية مثلا، فما الذي يجبرك عليها!
وهكذا …
قد يرد في ذهنك سؤال: هل يُعقل أن يرغب الشخص في شيء وهو لا يملك القدرات اللازمة له… الجواب: نعم!
وذلك لأسباب، أغلبها تتعلق بالصورة الذهنية عن مستقبل ذلك التخصص، فمثلًا:
- تُعجب بالطبيب الفلاني ومكانته وما يقدمه للمجتمع، وتُعجب بمهنة الطب ومكانتها. لكنك لا تملك القدرة لتكون طبيبًا!
- تُعجب بالإعلامي الفلاني الذي يقدم البرامج المعروفة، وتُعجب بالإعلام وتأثيره، فتتمنى أن تكون مكانه. لكنك لا تملك القدرة لتكون إعلاميًا!
- تُعجب بخبير كبير في التقنية، أو مبرمج معروف، أو بمؤسس فيس بوك ! فتتمنى أن تحقق مثلما حقق ، لكنك لا تملك القدرات التقنية اللازمة!
قد لا تملك القدرات اللازمة للثلاثة أمثلة أعلاه، لكنك قطعًا تملك قدرات في غيرها، وأنت أدرى بنفسك.
قد يرد الإعتراض الآتي: أن القدرات منها ما يمكن إكتسابه، بالتالي ليست عائقًا حقيقيًا.
الجواب: بالتأكيد. لكن لاحظ أنني أتحدث في سياق واضح، والشريحة المستهدفة واضحة: أتحدث عن اختيار التخصص الجامعي ، وللطلاب في بداية الجامعة، أو قبلها بقليل. وأتحدث عن قدرات أساسية لا غنى عنها في التخصص. بل وإن بعضها قد تكون (فطرية) لا (مكتسبة).
مثلًا: القدرة الذهنية على الحفظ والاستذكار، هل يمكن اكتسابها خلال سنة واحدة؟!
ومثال آخر في الرياضيات: من لديه ضعف إلى الآن في بعض العمليات الأساسية ،لأي سبب كان، هل يمكن أن يكتسب ذلك في هذه الفترة القصيرة؟
فمن كانت لديه الأساسيات وهي قابلة للتطوير والبناء، وهو مستعد لبذل الوقت والجهد ( مع الضغط الدراسي الجامعي) لاكتساب تلك القدرة أو المهارة، كان بها. أما من كان غير ذلك ، فما الذي يجبره عليها؟ خصوصا مع وجود خيارات أخرى.
وأختم محور القدرة بقصة حصلت لي شخصيًا: كنتُ في بادئ الأمر معجبًا جدًا بتخصصات الحاسب والبرمجة، كنتُ معجبًا بـ( الهاكرز) وقدراتهم، وأيضًا مستقبل الحاسب في زمننا هذا كبير جدًا ، للتقدم التقني، ولأن مبرمج الحاسب قد يعمل بشكل مستقل .
تخصصت في علوم الحاسب ( Computer Science ) ، وبعد أن أنهيت المادة الأولى ( لغة الجافا ) ، اكتشفت مربط الفرس:
لم تقل رغبتي ولا إعجابي أبدًا بتخصص الحاسب، لكنني باختصار: اكتشفت أن قدراتي لا تتوافق مع هذا التخصص! فما تعلمته خلال دراستي، وما أكده لي بعض الزملاء المتخصصين، أنه لكي تتميز في هذا التخصص، فلابد أن تتميز في أشياء عديدة،
مثلا: يجب أن تتحمل الجلوس أمام شاشة الحاسب لفترات طويلة، ويجب أن تتعلم من مصادر خارجية ، ويجب أن تتابع مستجدات التقنية أولا بأول، وإلا لن يكون لك ذلك النجاح.، بل ستكون أقل من عادي !
استطراد: بما أنني تطفلت قليلا بالكلام حول تخصص الحاسب، فلزملائي المتخصصين القراء للموضوع حق الرد فيما ذكر أعلاه إن لم يكن دقيقًا.
كانت هذه الخلاصة بالنسبة لي كافية لتحويل التخصص ، ولله الحمد كان من أفضل القرارات التي اتخذتها.
ننتقل إلى العامل الأخير.
تتمة الموضوع في الرد التالي…