المعمار حسن فتحي
الكاتب: محمد المهدي
من مجلة العربي (الكويت)
نشر في يوم الأربعاء 20/11/2002
لمسات حسن فتحي المعماري العربي العالمي لا تغيب. لقد حاول أن يعزف ذلك اللحن الصعب الذي يناغم الإنسان مع بيئته. وفي هذا المقال نكشف عن وجه آخر لهذا المعماري العظيم… وجه المبدع.
يقول العلم أن توأمين في سن العشرين أحدهما انطلق في مركبة فضائية تسير بسرعة الضوء, وبقي الآخر على الأرض. عاد الأول بعد عشر سنوات, أي في سن الثلاثين فوجد أخاه التوأم في سن السبعين, أي أن الفارق بينهما كان أربعين عاما كاملة.
سرعة الضوء تختصر الزمن. توجزه بالقياس الأرضي, هذا يعني أن التوأم المرتبط بنسبية زمن الفضاء قد اخترق المستقبل. والأهم من ذلك أن الإنسان الذي اخترق حاجز الضوء والصوت يصبح غير مسموع وغير مرئي. إنه أسرع من التقاط العين والأذن, إنه كائن خفي, أو كما جاء في خيال القدماء يلبس (طاقية الإخفاء).
والأعجب من اختراق المستقبل, أو الاختفاء عن الصوت والضوء, هو أنه لو قدر لهذا الإنسان أن يستخدم منظارا عملاقا في قوته يخترق به عمق الضوء, فإنه سيجد الزمن قد ارتد منحنيا عائدا. سيرى في المنظار أقصى بعد في العودة… أي سيرى قفاه!
أخذ بهذا العالم الساحر الذي يجمع العلم, بالأسطورة, بالفلسفة, المعماري الكبير حسن فتحي. له في هذا الإطار المستقبلي قصة عنوانها (يوتوبيا). كتبها في الأربعينيات من القرن الماضي, يهيم فيها خياله ليصل المبتدأ بالمنتهى.
يعثر عالم على وثيقة قديمة تتحدث عن بلاد (يوتوبيا) حيث المادة شفافة. يبدأ رحلة البحث مع رفيقته. يصلان للبلاد البيضاء, يجدانها مادية حسية. يصلان للبلاد الصفراء, يجدانها آلية مرصودة. يصلان للبلاد الزرقاء, يجدانها مهاجرة غافلة. يصلان للبلاد الحمراء, يجدانها مراقبة ممسوخة. يصلان للبلاد الخضراء, يجدانها رصاصية مجدبة, ما خلا فلاحا وزوجته يعيشان على أطراف قرية نائية. يواصلان البحث. تأخذ العالم البحوث العلمية الجافة.
يحدث شقاق بينه وبين رفيقته إلا أنهما يعودان إلى البحث, ويتصوران إمكان الوصول لحجر الفلاسفة, أي تحويل النحاس إلى ذهب. يحلمان بتوزيعه على البشر لرفع الفقر عنهم. ينسيان وصية الوثيقة ويحل بهما ظلام دامس, يظهر فارس ويبلغهما أنهما على حافة الهاوية, يكتشفان أنهما خالفا شروط الوصية سعيا وراء حجر الفلاسفة. تستحيل صفحات الوثيقة إلى بيضاء خالية. تزهد المرأة في الرحلة وتحن للأمومة وتذهب مع الفارس بينما يواصل الرجل رحلة البحث. يدير حوارا مع ظل هائل, يكتشف أنه الشيطان وأنه تلون في حياته بعدة أشكال كان آخرها في صورة الفارس. تفضل المرأة البقاء في كوخ الفلاحة على أطراف القرية بينما يواصل الرجل حواره مع الشيطان, يطلعه الأخير على سر خطير. لقد جنّد له العديد من الأعوان والعملاء. جعلهم ينشرون شره, وأيضا يحطم بعضهم البعض بكرات من جهنم كلما صغرت زادت تدميرا. يعترف الرجل بأنه أخطأ في لهاثه وراء حجر الفلاسفة, فأنساه ذلك بحثه عن (يوتوبيا) في لحظة يقرر فيها الشيطان هلاكه لأنه أدرك الحقيقة.
وتصور بالمقابل الرحلة التي طواها الراحل حسن فتحي (1900/ 1989) في أكثر من ثمانين عاما رحلة من قباب عمارة (النوبة) الشعبية البسيطة التي لا نعرف لأي زمن تعود, إلى (أقصر) طيبة من القرن السادس عشر قبل الميلاد, أم إلى عمارة مسجد السلطان حسن من القرن الرابع عشر بعد الميلاد.
مايسترو القاعة الحضارية اكتشف فيها لحن الأساس, وتبين بين أواوينها التنويع الزماني. جلس في إيوان (القبلة) أو (الحنية) الشرقية وتأمل المحيط. نواة هندسية معمارية متعارضة في تجاذب, أو متجاذبة في تعارض. قانون الأضداد يحتضن ذاته في عشق ونفور, وبقوة لا تقدر, يكثف الدفقة, لينثرها إلى اتساع لا يحد.
فن الرقش العربي يجسد المقولة بأبسط أدوات الطفولة الهندسية. مربع يتقاطع مع مربع, يشتاق الطول للعرض, يخصبان من الذرية ما تعمر به الأرض من خطوط التلاقي والفرقة, فهل تنثر المقولة إلى متاهة لا أدرية, أم يبتلعها الثقب الأسود؟
لا تأتلف الشعوب والقبائل في سيرها إلا مهتدية بالحكمة الهندسية العليا, محيط كروي حيث تعود الخطوط المتفرقة إلى اللقاء, فهل هي حكمة أرضية فقط… ومن قال إن الكون بكامله ليس بكروي؟
لقد أتم المعماري الكبير اتساقا واقعيا آخر في حياته, فالمشربية بوحدتها الصغيرة موثوقة في عينه بالعمارة الكبيرة. كما أن سديم الكون العظيم موثوق بخلية الجسم الضئيل, إنه (ميكروميجا) يلخصها بيت شعر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
المشربية والقباب
عشق الراحل حسن فتحي فن الرقش (الأرابيسك), عشق منه كرمز المشربية. وترك لنا نصاً أدبياً آخرا هو مسرحية (المشربية) كتبها أيضا في الأربعينيات, وقضيتها لاتزال ساخنة بيننا إلى اليوم.
خالد الشاب العربي يعشق تراثه, ولا يدري كيف يعيشه وسط زحمة وضغوط معاصرة. يلتقي بصديقته (هيلين) التي تمثل باسمها اليوناني أصول حضارة الغرب. تذهب به إلى تاجر عاديات شرقية, تعجبه مشربية قديمة من القرن 14م. يشتريها لتكون نواة لبيت يبنيه على طراز عربي.
يدعو خالد أصدقاء من طبقات عديدة في ليلة الاحتفال بانتهاء بيته. يصاب باضطراب وشعور بالنفور من الموسيقى الصاخبة التي يأنس بها الحضور. يشعر بالتناقض مكثفا بين المشربية وموسيقى الجاز, يدعو الجميع للانصراف, تدرك صديقته ما يعتمل في نفسه فتدير له الحركة الرابعة من خماسية (برامز) التي تكشف حالة الحزن, وحالة الإذعان للأمر في آن, ولكنها تمثل أيضا لمحة الأمل في لقاء حضارة الموسيقى, وحضارة العمارة.
عشق حسن فتحي القباب عشقا عمليا, تلتقي على قمتها خطوط الخطوط, وتتفرق على خط استوائها الفروع. عشق يلخص معجزة قبة الرأس, ومعجزة قبة الكون, تحت قبة الرأس 11 مليار خلية, وتحت قبة الكون مائة مليار مجرة غير مجرتنا. ويبسط حسن فتحي الأمر في سهولة الامتناع فيقول: السقف في البيت العربي هو السماء, والسجادة هي الحديقة, والحاشية سياجها, والمشربية تستكمل الوحدة بنثر دوائر الضوء على الحضور.
الفناء في البيت العربي اتصال بالسماء, واتصال بالأرض. والقبة عنده ليست للعزلة, فالبيت العربي يبدو انطوائيا لأنه يطل إلى الداخل, ولكنه في الحقيقة انبساطي لأنه يستحضر الخارج.
والبيت الحديث يبدو انبساطيا لأنه يطل على الخارج, ولكنه في الحقيقة انطوائي, لأنه يعزل الإنسان في داخله الإسمنتي فلا يرى من الخارج سوى العوادم اليومية. ينفر من الخارج, ويقلق من الداخل.
ويقول: (المعماري العربي هو الوحيد الذي نجح في اجتذاب السماء للإنسان, وتقريبها إليه. هنا السماء والأرض في عناق مستمر لا مثيل له, إلا في البيت العربي).
فن التعامل مع الخامة عند الراحل فتحي يوجد ألفة أخرى مع الداخل. فن الطوب فيه حضور الإنسان مع الخامة. والاسمنت يكفيه حرفي ماهر يكرر الوحدات ولا يعرف غيرها. العامل الاسمنتي لا يعرف سوى الجزئية, وتغيب عنه الكلية. عامل مصنع إلكترونيات يمر أمامه الجهاز فيركب قطعة محدودة, وهكذا زميله, وبقية العمال.
تغيب الكلية, أو هي غير موجودة, وغير مطلوبة إلا في ذهن التكنوقراطي.
والعامل في زمان عمارة الطين, وعمارة البيئة, وعمارة الداخل كان يدرك الكلية, أو النواة, كما يدرك الجزئية أو الفروع.
عمارة العنكبوت تخجل بتعقيداتها أمهر الصنّاع, كما أن بيت النحل لا يرقى إليه المهندس البارع, ولكن يظل الفارق المهم بينهما وبين الإنسان… الوعي, فمنذ ملايين السنين تبني العناكب بيوتا, ومنذ ملايين السنين يبني النحل عمائر, ولكن (مصطبة) بسيطة من الطين يشيدها الفلاح بملمس يده, يترك عليها خطوط بصماته, تفوق في وعيها كل هذه العمائر المكررة.
العصر الحديث يبحث عن جيوش النحل, وفرق من العناكب ومؤسسات الحصر والعد, تخصم من راتب العامل لحظة التأمل, وتطرده بقوانين محسوبة, موقعة بين الطرفين إذا تجاوز إلى الحلم.
فكيف يكون الابتكار؟!
أحلام وحقائق
يحلم الراحل حسن فتحي فيقول: لو خلق للإنسان جهاز عصبي ينفر العين من القبيح أو البليد, بأن تدمع أو تلتهب مثلا عند رؤيته؟
ويتساءل في حزن عن المفارقة التي جعلت حاسة الشم, أو حاسة السمع عند الإنسان أكثر دقة, وأكثر اتفاقا على طول الزمان والمكان… فالجميع يتفقون على النفور من الرائحة النتنة, أو الصوت المزعج, ولكنهم يتفرقون بأمزجة عديدة أمام المنظر المنفر.
هل العين أكثر تخلفا؟
مشكلة العين أنها أكثر طموحا… والاحتكاك بين الأضداد ولد العديد من مدارس الجمال, ووجهات النظر. المشكلة ليست في العين المتحركة, ولكن في العين الزجاجية التي جمدت الشريط عند لقطة بليدة.
وكم عانى الراحل من العين الزجاجية؟
هل هي تأملات ميتافيزيقية من المعماري الكبير؟
أبدا…
عبقريته جعلتها حقيقة حية في مشاريع معمارية عديدة. أولها عمارة قرية (الجرنة) القرية التي شيدها في جنوب مصر. كان يقول: (المنزل ثوب الإنسان, ولكن ماذا يفعل ثمانية آلاف مليون فقير في العالم الثالث, وقد تمزقت ثيابهم, أو نزعت عنهم؟).
وأجاب في تساول بسيط أيضا (أليست معجزة أن يكون ثوب الفقير متفقا مع بيئته, نابعا من تراثه؟ أن ينفرد بالأصالة؟).
وهــــكذا كان مشــروعه الكــــبير, في بيئـــــته يلمس الإنسان خامـــــته, علــــيه إعـــــدادها, ونحتها سكنا من خـــــــلال وعيه بتـــــراثه, فالطـــبقة المثـــــقفة في رأيه لـــــم تقـــــدم حلا, فـــــــقد تقــولبت عالميا بـــــقوالب النحل, وتعرضت عربيا للاستعمار الذاتي.
وكان يسخر فيقول: (تصور سودانيا في ملابس لويس الخامس عشر, أو سعوديا في بـــيت زجاجي؟).
اتسعت تجربة حسن فتحي, عبرت المحيط الأطلسي, وتحققت في ولاية (نيو مكسيكو) بالولايات المتحدة الأمريكية. وعبرت البحر الأحمر لتصل إلى الجزيرة العربية, والخليج العربي في أبنية رائعة.
كان حسن فتحي من فرسان التنظير, والتنفيذ. ومن الباب الأول عرفه الغرب, وأهل الوعي من العرب. ومن الباب الثاني عرفه البسطاء, وأصحاب عمارة الطين. وقد صوره بعض الخبثاء وكأنه (دون كيشوت) يصارع طواحين الهواء, ويغرق في الأضابير.
وإنه لشرف أن يكون كذلك مادام أصبع الاتهام موصولا بعقل مغرض. وإن جاءته المذمة من ناقص فهي شهادة له بالكمال
يستهل (معهد العالم العربي) في باريس سلسلة معارض مخصصة للمبدعين الكبار في العالم العربي, بإقامة معرض خاص للمعماري الكبير حسن فتحي في الفترة من 7 أكتوبر إلى 24 نوفمبر 2002.
وكانت الجامعة الأمريكية في القاهرة قد أقامت احتفالا كبيرا في 23 مارس من العام الماضي بمناسبة مرور مائة عام على مولد هذا المبدع تحت عنوان (حسن بك كما عرفناه) تحدث فيه من أحبوه, ومن أدركوا قيمة ما أنجز.
فتحية شكر لمعهد العالم العربي في باريس لهذه المبادرة احتفاء برموز ثقافية عربية كبيرة. وتحية شكر للجامعة الأمريكية في القاهرة, فهي الجهة العلمية التي تابعت دائما إنتاجه, وحافظت على رسومه, ومخططاته, وخططه. أصدرت ما يعرف به, واحتفت دائما بذكراه.