كم سندفع ثمنا لاعمدة الدخان
أثير السادة
كان اكثر من دخان ذاك الذي شهدناه في الحادي عشر من سبتمبر ، واكثر من اطنان اسمنت تهاوت بعد كبرياء كانت تطاول به تلك البنايات عنان السماء …كان الحدث اكبر من كونه اجسادا من سيئي الحظ والتوقيت اختصهم القدر بنهاية ميلودرامية.
كان حتما شيئا يجاوز كل تلك الاشياء…ويجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ والزمن…كان صفعة موجعة لم تفقد الدب الامريكي اتزانه فقط ، وانما سلبت من العالم اجمع ثقته بعقلانية هذا اللحظة التي نعيشها…ادخلت العقل البشري في نفق مظلم وهي تمنح شهادة تصديق لدعاوي صموئيل هنغتون ، مذكرة ايانا بنبوءته صدام الحضارات.
لقد غابت اعمدة الدخان عن سماء نيويورك ، لكنها مذاك لم تنقطع عن ترحالها في هذا العالم ، منذ ان اقسم الدب الهائج بأن يكمل بهذا المشهد الدرامي حكاية اسطورية يستعيد بها بطولة الكوبوي …ان يطرز من جديد قميصا لعثمان ، وهو يجرد قائمة اعدائه بحثا عن قرابين لعرس الدم …للكرامة القومية التي تناثرت فوق ركام الحطام…حطام من مال…ومن ذهب…ومن اشلاء…يوم ان بدت تلك الامبراطورية المالية فريسة ميسورة لهواة الانتحار الذين ادهشتهم اللعب بالطائرات.
لقد وجدنا انفسنا محكومين بالدخان…معنيين به قبل الآخرين…كنا منذ بداية المشهد ابطاله وضحاياه…وليس يمنع عنا الدخان بياناتنا المترددة …ولا وصفات الاخلاق التي نصدرها… ولابضاعتنا الفكرية الكاسدة في اسواقنا…اننا متهمون جميعا في سقوط عقلانية هذا الكون…وتعطيل دولاب التاريخ عن الحركة.
كانت رائحة الدخان مشبعة بروائحنا …بروائح الاصولية التي نؤسس لها خارج التاريخ …والتأويلات الخشنة التي تناهبت النص الديني وجعلت منه ذريعة لمصادرة حق الانسان في الوجود والاختلاف .
واليوم ثمة نموذج جديد للهيمنة تشاغلت المعدات الحربية الامريكية في اذاعته علينا…تذكرنا بأن المهمة مازالت قائمة …فالتحرير القادم يتجه ناحية تحرير ثقافتنا من قبضة القراءات الرسمية للدين ، وانتاج نمط امريكي للتدين.
يعود بنا الحادي عشر بن سبتمبر الى مساءلة الخطاب الديني المحلي ومن تواطأ معه في انتاج نموذج اسلامي مؤدلج مازال هاجسه طرد الآخرين من دائرة التفكير بدعوى امتلاك اليقين…هذا اليقين الطارد للتعدد وارادة التفكير والاعتقاد…مساءلة عن دور هذا الخطاب في تأجيج شهوة العنف التي تنمو في اجساد اولئك المتمادين في اشتهائهم للخلاص من ضغوط سياقاتهم الفكرية برمي المجتمع بكامله في هوس الحريق.
حتما لم يكن هذا الجسد الفكري المثقل بدغمائيته بضاعة مستوردة ، بل هو مآل تعبئة المجتمع بكراهيةالآخر وفشله في مواجهة مأزقه الفكري وحل تناقضاته الايدلوجية.
انه يحضنا على مراجعة الذات بدل من تجريم الآخرين والانغماس في اعادة انتاج خطاب المؤامرة … يحضنا على مواجهة آليات تفريخ التعصب وفحص منظوماتها الفكرية بدل الانزلاق الى قراءات تفسيرية مخاتلة للحدث ، فالاقرار بأخطاء منظوماتنا الفكرية والسياسية والتربوية اول الطريق لاستعادة القدرة على الفحص والمراجعة.