"ولم لا نصنع لديننا الإسلامي مثل هذا النشاط؟"

هدفنا الدعوة إلى الدين الماجد بوسيلة الفن الصاعد، وتزكية الفن السليم بنفحات الدين الكريم، إيمانا بأنه إذا تدين رجل الفن، وتفنن رجل الدين التقوا في منتصف الطريق لخدمة العقيدة الصحيحة والفن السليم…".

بهذه الكلمات الذهبية حاول الشيخ أحمد الشرباصي التنظير لتجربة مسرح الشبان المسلمين التي امتدت من عام 1945 وحتى عام 1961، وكان قيامها امتدادا لرؤية يؤكدها الشرباصي – أحد مؤلفي الفريق-:

“إذا كان للخطبة والقصيدة والقصة والمقال دورها في التأثير والتوجيه – وهذه كلها من ألوان الفن – فيجب أن يكون للمسرحية والنشيد واللحن والفيلم نصيب في التوجيه إلى قيم الخير ومثل الفضيلة… إننا نريد لمسرحنا أن يكون للإيمان سنادا، وللعروبة عمادا، والعربية صوتا عاليا، وللقيم الرفيعة منبرا”.

البداية العثمانية

كانت البداية من حدث تاريخي هام هو جنازة الزعيم الوطني مصطفى كامل 1908، فقد وقع الاختيار على التلميذ “محمد عثمان” من مدرسة الاتحاد الوطني الابتدائية لإلقاء كلمة على لسان طفل يرثي الراحل، وقد أجاد عثمان الإلقاء لدرجة كان لها الأثر البليغ على المشيعين الذين انهالوا عليه بالتحية والقبلات إعجابا به.

وتابع عثمان شغفه بالمسرح فادخر وهو تلميذ في الرابعة الابتدائية 3 قروش ليحجز مقعدا بمسرح الشيخ سلامة حجازي، ويشاهد عرض “صلاح الدين الأيوبي” وانبهر بفن سلامة حتى أصبح يذهب للمسرح كل أسبوع مع زميل له يهوى الغناء يسمى محمد عطية. كان عطية يقلد بين الفصول الشيخ سلامة فسمعه مرة الشيخ فأعجب به ومنحه تصريحا مجانيا لمتابعة المسرحيات مع زميله عثمان مما أعطاهما فرصة للمتابعة من خلال الكواليس وتطور الأمر حتى استعان بهما الشيخ في أدوار صغيرة.

وأثناء دراسته الثانوية بدأ يشتري الروايات ويعمل على التدرب عليها مع أصدقائه خلال شهر رمضان ليمثلوها في الحواري والأزقة وتجمعات الشباب، وتطور الأمر إلى تكوين فرقة تمثيل في مدرسة السعيدية تقيم عروضها بقاعة المطعم، ثم شارك في جمعية “رقي التمثيل والآداب” مع الراحل زكي طليمات والتي كانت تدرب الشباب على التمثيل والإلقاء.

عمل محمد عثمان المولود بحي بولاق في أكتوبر 1899، موظفا بالأوقاف ثم وزارة التعليم. وفي تلك الفترة كون مع بديع خيري وحسين صدقي فريقا لهواة التمثيل في الحي الشعبي “جزيرة بدران” بالقاهرة وبدأ يميل نوعا ما للإخراج، وبدأ كذلك في الاهتمام بالروايات المقررة على طلبة البكالوريا ليساعدهم في فهمها مما أتاح له الانتشار في مدارس القاهرة مخرجا ومدربا.

إنشاء فرقة الشبان

جاءت فكرة إنشاء مسرح الشبان المسلمين حين قرأ عثمان عن مسرحية “آلام المسيح” الألمانية، والتي تجد إقبالا جماهيريا كبيرا، وتساهم في نشر الأفكار الدينية. قرر عثمان التحول إلى المسرحيات الدينية عن عقيدة واقتناع. فكر محمد عثمان وشعاره: “ولم لا نصنع لديننا الإسلامي مثل هذا النشاط؟”، وذهب لجمعية الشبان المسلمين ليعرض فكرته، ووافق الرئيس العام للجمعية صالح حرب شريطة خلو هذه المسرحيات من العنصر النسائي…

بدأ الفريق في تقديم بعض الأعمال الكوميدية بإخراج محمد عثمان، وكان يقدم مسرحية من 3 مشاهد منفصلة -متأثرا بالاسكتشات التي كان يقدمها سابقا- الأول فكاهة، والثاني مأساة اجتماعية، والثالث مشهد ديني، ثم قدم عرضه الإسلامي الأول “بلال” للمؤلف يوسف المحجوب، وبعد هذا العرض أحست الجمعية بأهمية الفريق فسمحت لعثمان بإجراء توسعات في قاعة المحاضرات وتعديلات لتكون قاعة مسرح وتبرع أحد الأغنياء المعجبين بنشاط فرقة المسرح الإسلامي بستارة فاخرة موشاة بالقصب تكلفت في هذا الوقت 500 جنيه، والطريف أن يكون هذا الثري المتبرع من عائلة لطف الله وهي عائلة قبطية شهيرة في مصر (!!)

واستمر الفريق يعرض ليلة واحدة كل شهر وكانت المشاهدة بالمجان في أول الأمر ثم صارت مقابل قروش قليلة.

وشهدت تلك الفترة استعانة عدد من الهيئات الاجتماعية والجامعات والمؤسسات بالفريق ليدعم مسرحياتها، فقد شارك الفريق في إخراج مسرحيتي “إسلام هرقل” و"خالد بن الوليد"، وذلك لرابطة مسرح الأزهر، وكذلك في مسرحيتي “الهادى” عام 1951، و"عبد الرحمن الناصر" عام 1952 وذلك لرابطة طلبة دار العلوم، ومسرحية “صلاح الدين الأيوبي” لرابطة أبناء فلسطين عام 1953، ومسرحية “عمرو بن العاص” لوزارة الأوقاف عام 1954، ومسرحية “نورونا” لهيئة البريد.

واللافت للنظر أنه كان يقوم بذلك دون مقابل، وحسب قوله: “حبا في نشر الدعوة الإسلامية عن طريق الفن”.

والأكثر من ذلك أن الفريق بكامله ظل لا يتقاضى أي أجر على الأعمال التي قدمها رغم ما بذله من جهد ومشقة على مدار عقدين من الزمان.

ويمكننا رصد عدد من مظاهر نجاح هذه الفرقة كذلك فيما يتعلق بجذب الفريق لعدد من المسرحيين اللامعين مثل: توفيق الدقن وسعد أردش وكمال يس، أضف إلى ذلك دعوة الفريق لعرض مسرحياته داخل وخارج القطر فقد أقام حفلات في محافظات: قنا والمنيا وبني سويف والمنصورة والسويس، وكذلك في فلسطين في يافا ونابلس عامي 1946و 1947.

كما أن عددا من هذه المسرحيات تحولت إلى أفلام سينمائية مثل: بلال مؤذن الرسول- ظهور الإسلام- بيت الله الحرام، وشارك في تمثيلها سينمائيا عدد من أفراد هذا الفريق.

إنشاء فريق إسلامي آخر

وكعادة الأمور فقد دبت مشاكل بين محمد عثمان ورئيس الجمعية صالح حرب. ومرد هذه الخلافات أن عثمان قد شعر أن الفريق لا يلقى التقدير الأدبي اللازم وأن نظرة الجمعية للفريق باتت أقل مما يستحقها.

خرج محمد عثمان من الفريق عام 1954 ورفض أن يخرج معه تلامذته وزملاؤه بل حافظ على فريق الشبان المسلمين، وكان يقول لهم: “أوصيكم بالاستمرار في مواقعكم لنكثر من الفرق الإسلامية ونوجد التنافس بينها”.

وأسس فرقة اسمها المسرح الإسلامي ( اقرأ بيان تأسيس الفرقة ) وبدأت الفرقة عملها بالتدريب لتقدم إحدى المسرحيات، وقبل أن يتم شيء من ذلك جاء صديق للفرقة ولرئيسها وهو الأستاذ الدمرداش التوني عضو مجلس الأمة يعرض اقتراحا بانضمام الفرقة إلى هيئة التحرير التابعة لحكومة الثورة، ويبين مزايا هذا الانضمام من تأييد للفرقة وتنفيذها لمشروعاتها وبذلك تصل الفرقة إلى أهدافها في سهولة ويسر.

لقي الاقتراح قبولا من جانب الأعضاء لأنه سيضمن لهم إمكانات ليست متوافرة لديهم الآن من أهمها المقر المناسب في وسط القاهرة. وتم انضمام الفرقة فعلا إلى هيئة التحرير،
عانى عثمان من الروتين الذي لم يتعود عليه بعد أن كان يعمل حرا وبلا وصاية قبل ذلك. تقدم عثمان بخطة لتطوير هيئة التحرير لكن السبل سدت أمامه حتى إنه لم يتمكن من مقابلة وزير الثقافة، كما اعتذر مدير الأوبرا عن الاستجابة لمطالب الفريق.

ويرجع الباحث محمد صلاح الدين في رسالة علمية عن المسرح الديني في مصر أسباب إهمال هيئة التحرير لفرقة المسرح الإسلامي إلى الحملة الشديدة التي تعرض لها الإخوان المسلمون آنذاك وكل أنشطتهم بما فيها المسرح، إذ “لم يكن من المنطقي أن تشجع الحكومة مسرح عثمان بينما تهدم مسرح زميله، وقد كان هدفهما واحدا ورسالتهما متطابقة”، ومما يؤكد كلام الباحث ما ذكره عبد الرحمن البنا مؤسس مسرح الإخوان المسلمين: “تربطني بعثمان صداقة قوية وأخوة صادقة يزينها الخلق الفاضل، ويدعمها الفن الأصيل، وأشيد بجهوده في إنشاء فرقة المسرح الإسلامي التابعة للشبان المسلمين حيث كنا نتعاون في كل شئون المسرح الإسلامي”.

وتفرقت الفرقة بعد إهمالها من هيئة التحرير لكنه دعي كفرد للاشتراك في فرقة التليفزيون المسرحية ولم يكن يهدف من هذا الاشتراك إلا “إيجاد منفذ لدخول المسرحية الإسلامية إلى التلفزيون”.

وبعد خروج محمد عثمان من الفرقة تولى قيادتها فؤاد الطوخي وهو الكاتب الأول للفرقة، ثم مخرجها في فترتها تلك حتى توقفها عام 1961 بعد إنتاج بلغ 14 مسرحية إسلامية المضمون، وست مسرحيات فكاهية واجتماعية.

وبتوقفها انتهت فترة مهمة في تاريخ الفن الإسلامي الحديث يمكن أن تعد من أفضل وأنضج التجارب.